{ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} (سورة هود:31)
أي:بل أنا عبد رسول، ولا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) يعني: من أتباعه
{لن يؤتيهم الله خيراً، الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين} (سورة هود:31)
أي: لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة، الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما قالوا في الموضع الآخر:
{أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون* إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين} (سورة الشعراء:111ـ115)
وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى:
{فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} (سورة العنكبوت:14)
أي: ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم.
وكان كلما انقرض جبل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته. وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه، وصاه فيما بينه وبينه، إلا يؤمن بنوح أبداً ما عاش ودائماً ما بقى.
وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق، ولهذا قال:
{ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} (سورة نوح:27)
ولهذا:
{قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين} (سورة هود:32ـ33)
أي: إنما يقدر علي ذلك الله عز وجل، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون،
{ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون} (سورة هود:34)
أي: من يريد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم، العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
{وأوحى إلي نوح أنه لن يؤمن قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} (سورة هود:36)
وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، وتسلية له عما كان منهم إليه: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) أي: لا يسوء لك ما جرى فإن النصر قريب والنبأ عجيب عجيب.
{وأصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (سورة هود:37)
وذلك أن نوحاً عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلي أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق، من فعال ومقال، دعا عليهم دعوة غضب لله عليهم، فلبى الله دعوته، وأجاب طلبته.
قال تعالى:
{ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} (سورة الصافات:75ـ76)
وقال تعالى:
{ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} (سورة الأنبياء:76)
وقال تعالى:
{قال رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين} (سورة الشعراء:117ـ118)
وقال تعالى:
{فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} (سورة القمر:10)
وقال تعالى:
{قل رب انصرني بما كذبون} (سورة المؤمنون:26)
وقال تعالى:
{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً * وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} (سورة نوح:25ـ27)
فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم.
فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها.
وقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره وحل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس كالمعاينة. ولهذا قال:
{ولا تخاطبي في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} (سورة هود:37ـ38)
أي: يستهزئون به استبعاداً لوقوع ما توعدهم به،
{قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} (سورة هود:38)
أي: نحن الذين نسخر منكم، ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم؛ الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم،
{فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} (سورة هود:39)
وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ في الدنيا، وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضاً أن يكون جاءهم من رسول.
كما قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجئ نوح عليه السلام وأمته، فيقول الله عز وجل: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته فنشهد أنه قد بلغ"
وهو قوله تعالى:
{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (سورة البقرة:143)
والوسط: العدل، وهكذا رواه.
فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق، بأن الله قد بعث نوحاً بالحق، وأنزل عليه الحق وأمره به، وأنه بلغه إلي أمته على أكمل الوجوه وأتمها، ولم يدع شيئاً مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به، ولا شيئاً مما يضرهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه.
وهكذا شأن جميع الرسل، حتى إنه حذر قومه المسيح الدجال، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانه، حذراً عليهم وشفقة ورحمة بهم منه.
كما قال البخاري: حدثنا عبدان، حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال سالم: قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: "إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور"
وهذا الحديث في الصحيحين أيضاً من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أحدثكم عن الدجال حديثاً ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجئ معه بمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه"
لفظ البخاري.
وقد قال بعض العلماء: لما استجاب الله له؛ أمره أن يغرس شجراً ليعمل منه السفينة فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائه أخرى، وقيل في أربعين سنة، فالله أعلم.
قال محمد بن إسحاق عن الثوري: وكانت من خشب الساج، وقيل من الصنوبر؛ وهو نص التوراة.
قال الثوري: وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤاً أزور يشق الماء.
وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعاً. وهذا الذي في التوراة على ما رأيته.
قال الحسن البصري: ستمائة في عرض ثلاثمائة.
وعن ابن عباس: ألف ذراع في عرض ستمائة ذراع.
وقيل: كان طولها ألفي ذراع، وعرضها مائة ذراع.
قالوا كلهم: وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات؛ كل واحدة عشرة أذرع، فالسفلي للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور، وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
قال الله تعالى:
{قال رب انصرني بما كذبون * فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا ووحينا} (سورة المؤمنون:26ـ27)
أي: بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك، لنرشدك إلي الصواب في صنعتها.
{فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول، ولا تخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون} (سورة المؤمنون:27)
فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه، أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي: أهل بيته، إلا من سبق عليه القول منه، أي: إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد، وأمره أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعانيه من العذاب العظيم؛ الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد؛ كما قدمنا بيانه قبل.
والمراد بالتنور عند الجمهور وجه الأرض، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار، وعن ابن عباس: التنور عين في الهند، وعن الشعبي: بالكوفة، وعن قتادة: بالجيزة.
وقال علي بن أبي طالب: المراد بالتنور فلق الصبح. وتنور الفجر؛ أي إشراقه وضياؤه. أي: عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين، وهذا قول غريب. وقوله تعالى:
{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن، وما آمن إلا قليل} (سورة هود:40)
هذا أمر بأنه عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.
وفي كتاب أهل الكتاب: أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، وما لا يؤكل زوجين: ذكر وأنثى.
وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: (اثنين) إن جعلنا ذلك مفعولاً به، وأما إن جعلناه توكيداً لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي. والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن؟ أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض. ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا؛ فأوحى الله إلي الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها"
وقوله:
{وأهلك إلا من سبق عليه القول} (سورة هود:40)
أي: من استجيب فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه "يام" الذي غرق كما سيأتي بيانه.
{ومن آمن} (سورة هود:40)
أي: واحمل فيها من آمن بك من أمتك، قال الله تعالى:
{وما آمن معه إلا قليل} (سورة هود:40)
هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة ليلاً ونهاراً بضروب المقال، وفنون التلطفات، والتهديد والوعيد تارة، والترغيب والوعيد أخرى.
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة.
فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفساً معهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفساً. وقيل: كانوا عشرة.
وقيل: إنما كانوا نوحاً وبينه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة "يام" الذي انخزل وانعزل وسلك ع طريق النجاة فما عدل إذ عدل.
وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية. بل هي نص في أنه قد ركب معه من غير أهله طائفة ممن آمن به، كما قال:
{ونجني ومن معي من المؤمنين} (سورة الشعراء:118)
وقيل: كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم: وهي حام، وسام، ويافث، ويام ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذي قد غرق، و"عابر" فقد ماتت قبل الطوفان، وقيل إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها.
وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت إلي يوم القيامة، والظاهر الأول؛ لقوله:
{لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (سورة نوح:26)
قال الله تعالى:
{فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين* وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين} (سورة المؤمنون:28ـ29)
أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه، وأقر عينه، ممن خالفه وكذبه: كما قال تعالى:
{والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون* لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا ربنا لمنقلبون} (سورة الزخرف: 12ـ14)
وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور؛ أن يكون على الخير والبركة، وأن يكون عاقبتها محمودة.
كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر:
{وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} (سورة الإسراء:80)
وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية وقال:
{اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} (سورة هود:41)
أي: على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤها (إن ربي لغفور رحيم) أي: وذو عقاب أليم، مع كونه غفوراً رحيماً، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره.
وقال الله تعالى:
{وهي تجري بهم في موج كالجبال} (سورة هود:42)
وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطراً لم تعهده الأرض قبلها ولا تمطره بعدها، كان كأفواه القرب وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها.
كما قال تعالى:
{فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر} (سورة القمر:10ـ13)
والدسر: المسامير
{تجري بأعيننا} (سورة القمر:14)
أي: بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها
{جزاء لمن كان كفر} (سورة القمر:14)
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن الطوفان كان في ثالث عشر شهر آب في حمارة القيظ.
وقال تعالى:
{إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} (سورة الحاقة:11)
أي: السفينة
{لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} (سورة الحاقة:12)